سورة الجمعة - تفسير التفسير الوسيط

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الجمعة)


        


{يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)} [الجمعة: 62/ 1- 4].
ينزّه اللّه ويمجده جميع المخلوقات ناطقها وجامدها، إقرارا بوجوده ووحدانيته وقدرته، ولأنه مالك السماوات والأرض المتصرف فيهما بأمره وحكمته، المنزه عن جميع النقائص والعيوب، القوي في سلطانه وقدرته، الغالب القاهر الذي لا يغلبه غالب، البالغ العزة والحكمة، المتقن في تدبيره وأفعاله كل شيء.
واللام في قوله {لِلَّهِ} يسبح لله: زائدة بقصد التوكيد والتمكين.
واللّه سبحانه هو الذي أرسل في العرب الأميّين، حيث كان أكثرهم لا يقرأ ولا يكتب، أرسل فيهم رسولا من جنسهم، فهو أمّي مثلهم، يتلو عليهم آيات القرآن، ويطهرهم من الشرك، وينمي الخير فيهم، ويعلّمهم القرآن والسّنة ومعالم الشريعة، وإن كانوا من قبل مجيئه لفي خطأ واضح، بعيد عن الحق. فالكتاب في الآية: الوحي المتلو وهو القرآن، والحكمة: السّنة ومعالم الشريعة، أي أحكام الدين والقرآن.
وهذه الآية تعديد نعم اللّه تعالى على العرب فيما أولاهم.
ووصف العرب بالأميّين لعدم تمكّن أكثرهم من القراءة والكتابة، كما جاء في قوله صلّى اللّه عليه وسلّم- الذي أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنّسائي-: «إنا أمّة أميّة لا نحسب ولا نكتب، الشهر هكذا وهكذا».
أي تسعة وعشرون يوما أو ثلاثون.
وهذا الوصف تأكيد أيضا البيان النعمة على العرب بذكر حالهم التي كانت على الضد من الهداية، الغارقة في الضلالة. وكلمة {مِنْهُمْ} دالّة على أن النّبي محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم العربي الهاشمي هو من العرب الخلّص.
وامتدّت بركة البعثة النّبوية إلى جميع طوائف الناس، من الروم والفرس وغيرهم، حيث أعدّ اللّه لقبول دينه جماعة آخرين: وهم من دخل في الإسلام بعد الصحابة إلى يوم القيامة، وهم لم يلحقوا بالصحب الكرام في ذلك الوقت، وسيلحقون بهم من بعد، واللّه هو القوي الغالب القاهر، ذو العزة والسلطان، القادر على التمكين لأمّة الإسلام في الأرض، وهو ذو الحكمة البالغة في شرعه وقدره، وأفعاله وأقواله، وتدبير خلقه. وكلمة {مِنْهُمْ} في قوله: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ} إنما يراد بها في البشرية والإيمان، كأنه تعالى قال: وآخرين من الناس، سواء من العرب أو من غيرهم هم من الأمة الإسلامية.
وكلمة {آخَرِينَ} إما معطوفة بالنصب على ضمير {يُعَلِّمُهُمُ} أي يعلّم العرب وغيرهم، أو معطوفة بالجر على قوله تعالى: {فِي الْأُمِّيِّينَ} أي وبعث في الأمّيين رسولا منهم، وفي آخرين.
وهذا دليل على عموم بعثة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم إلى جميع الناس، فهي إلى العرب وغيرهم، ويدلّ على ذلك كتب النبي صلّى اللّه عليه وسلّم إلى ملوك وأمراء فارس والروم وغيرهم من الأمم، يدعوهم فيها إلى اللّه عزّ وجلّ وإلى اتباع ما جاء به. وقوله: {لَمَّا} نفي لما قرب من الحال، والمعنى: أنهم مزمعون أن يلحقوا بهم. وهي (لم) زيدت عليها (ما) للتأكيد.
هذه البعثة النبوية خير كبير ورحمة وفضل على الأمة العربية والناس جميعا، لقوله تعالى: { ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ} أي ذلك الإسلام والوحي وإعطاء النبوة العظيمة لمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم: فضل من اللّه يعطيه من يشاء من عباده، واللّه صاحب الفضل العظيم الذي لا يساويه فضل ولا يدانيه، وهو ذو المنّ العظيم على جميع خلقه في الدنيا، بتعليم الكتاب والحكمة في الدنيا، وفي الآخرة بمضاعفة الجزاء على الأعمال. فقوله تعالى: {ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ} تبيين لموقع النعمة وتخصيصه إياهم (أي العرب وغيرهم) بها.
وفي القرآن آيات كثيرة أخرى تدل على عموم الرسالة الإسلامية لجميع أبناء البشرية رجالا ونساء، بل وللجنّ أيضا كما هو ثابت في سورة الجنّ وغيرها، مثل قوله تعالى: {قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} [الأعراف: 7/ 158].
وقوله سبحانه: {تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (1)} [الفرقان: 25/ 1].
موقف اليهود من التوراة:
زعم اليهود أن النبي محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم بعث إلى العرب خاصة، ولم يبعث لهم، لمفهوم الآية السابقة: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ...} فردّ اللّه عليهم بأنهم لم يعملوا بالتوراة، وأنهم لو عملوا بمقتضاها وما تضمنته من البشارة بالرسول محمد، لانتفعوا بها وآمنوا به، ولم يقولوا هذا القول. وكذلك ردّ اللّه عليهم حين قالوا: {نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 5/ 18] بأنه لو كان قولهم حقا وموثوقا به، لتمنّوا على اللّه أن يميتهم، لينقلهم إلى دار كرامته التي أعدّها لأوليائه، وهم في الحقيقة لا يتمنون الموت أبدا، بسبب ما قدموا من الكفر وتحريف الآيات. وهذا ما صرّحت به الآيات التالية متضمنة هذين الرّدّين:


{مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (6) وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)} [الجمعة: 62/ 5- 8].
إن مثل اليهود الذين كلفوا العمل بالتوراة والقيام بأوامرها ونواهيها، ثم هجروها وتركوها، كمثل الحمار الذي يحمل الكتب الكبيرة على ظهره، وهو لا يقدّر قيمتها وأهميتها، ولا الفرق بينها وبين الأحمال الأخرى، لأنه عديم الفهم. وهذا كما حمل الإنسان الأمانة. فهم لم يلتزموا حدود التوراة، حين كذبوا بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم، والتوراة تنطق بنبوته، فكأن كل خير لم ينتفع به من حمّله، كمثل حمار عليه أسفار، لا يميز بينها. والأسفار جمع سفر: وهو الكتاب المجتمع الأوراق منضّدة.
ما أقبح ما يمثّل به للمكذبين الذين كذبوا بآيات اللّه، وما أشنع هذا التشبيه، وهو تشبيه اليهود بالحمار، فإياكم أن تكونوا أيها المسلمون مثلهم. واللّه لا يوفق للحق والخير القوم الكافرين، بنحو عام، ومنهم اليهود بالأولى. فقوله: {بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ} معناه وتقديره: بئس المثل مثل القوم.
ثم ذمّ اليهود ذمّا آخر، وردّ على مزاعمهم ردا آخر، قل أيها الرسول: يا أيها اليهود إن كنتم تزعمون أنكم أولياء اللّه، أي أحباؤه من دون الناس، وأنكم على هدى، وأن المسلمين على ضلالة، فاطلبوا الموت لتصيروا إلى الكرامة أو التكريم في زعمكم، وادعوا بالموت على الضّال من الفئتين، إن كنتم صادقين في هذا الزعم.
روي أنها نزلت بسبب أن يهود المدينة لما ظهر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم خاطبوا يهود خيبر في أمره، فذكروا نبوّته، وقالوا لهم: إن رأيتم اتّباعه أطعناكم، وإن رأيتم خلافه خالفناه معكم، فجاءهم جواب أهل خيبر يقولون: نحن أبناء إبراهيم خليل الرحمن، وأبناء عزير ابن اللّه، ومنا الأنبياء، ومتى كانت النّبوة في العرب؟ نحن أحقّ بالنّبوة من محمد، ولا سبيل إلى اتّباعه، فنزلت الآية، بمعنى: إنكم إذا كنتم من اللّه بهذه المنزلة، فقربه وفراق هذه الحياة الخسيسة أحبّ إليكم، فتمنّوا الموت إن كنتم صادقين، تعتقدون في أنفسكم هذه المنزلة.
قال ابن عطية: ثم أخبر اللّه تعالى أنهم لا يتمنون الموت ولا يريدونه إلا كرها، لعلمهم بسوء حالهم عند اللّه تعالى وبعدهم عنه. وروى كثير من المفسّرين أن اللّه تعالى جعل هذه الآية معجزة لمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم، وآية باهرة، وأعلمه أنه إن تمنى أحد منهم الموت في أيام معدودة مات وفارق الدنيا.
فقال لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: تمنّوا الموت على جهة التعجيز وإظهار الآية، فما تمنّاه أحد، خوفا من الموت، وثقة بصدق محمد صلّى اللّه عليه وسلّم.
ثم توعّدهم اللّه تعالى بالموت الذي لا محيد لهم عنه، ثم بما بعده من الرد إلى اللّه تعالى، عالم الحس والمشاهدة، وعالم المغيبات المجهولة للبشر، فيخبركم بأعمالكم، ويجازيكم عليها بما أنتم له أهل. إن هذه الرّدود القاطعة، والتحدّيات القرآنية السافرة لليهود تدلّ دلالة قاطعة على أنهم قوم لا يريدون الحق، ويزعمون أنهم شعب اللّه المختار، وهذا كذب وافتراء، فهم أبعد الناس عن القربى من اللّه، وعن رضا اللّه عنهم. إنهم قتلة الأنبياء، وطعنة أعراض وكرامات الأنبياء، وهم أبعد الناس عن التوراة وعن أحكام اللّه وشرائعه، إنهم أعداء اللّه والإنسانية على حد سواء، وبخاصة هم أعداء العرب والمسلمين جميعا.
صلاة الجمعة والعمل بعدها:
الإسلام دين جمع بين الدنيا والآخرة، والمادة والروح، والعبادة والمعاملة، فهو دين الوسطية والاعتدال، وإعطاء كل ذي حق حقّه، فالعبادة فريضة والجمعة فريضة، يجب احترامها والقيام بها على وجه أتم، من السعي إليها إن كانت جمعة، والاستماع إلى خطبتها، فلا يجوز الاشتغال عنها بأي عمل آخر من بيع وشراء أو تجارة، أو لهو، أداء مهمة. لكن بمجرد الانتهاء منها، طلب الإسلام التفرغ للأعمال الأخرى، والسّعي في توفير المكاسب والمعايش مع ملازمة ذكر اللّه وخشيته سرّا وعلانية، وهذا ما أمرت به الآيات الآتية:


{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)} [الجمعة: 62/ 9- 11].
يا معشر أهل التصديق والإيمان بالله ورسوله وبالإسلام الحق، إذا أذّن لصلاة الجمعة في يومها المعروف، بالأذان الثاني بعد جلوس الخطيب على المنبر، فيحرم التشاغل بأعمال الدنيا، وعليكم المبادرة إلى أداء الفريضة، من الاستماع إلى ذكر اللّه، وهو الخطبة، وأداء صلاة الجمعة في المسجد الجامع، وترك البيع وسائر أوجه المعاملات من إجارة وشركة ونحوهما، وذلكم السّعي إلى ذكر اللّه وترك البيع خير من فعل البيع وترك السّعي، لما في الامتثال من الثواب والجزاء الحسن، إن كنتم من أهل الدّراية والعلم الصحيح بما ينفع. وخصّ البيع بالذكر، لأنه من أهم ما يشغل الإنسان نهارا، وفيه إشارة إلى ترك جميع التّجارات والمهن والحرف في وقت الخطبة والصلاة. أما الأذان الأول فهو تنبيه للإعداد للصلاة والمضي إليها خشية أن يفوت تحقيق المقصد الشرعي من تشريع صلاة الجمعة والاستماع لخطبتها.
والسّعي في الآية: ليس الإسراع في المشي، كالسّعي بين الصّفا والمروة، وإنما المراد إتيان الصلاة بالسكينة والوقار، والسّعي: هو بالنّية والإرادة والعمل. والذّكر: هو وعظ الخطبة.
ويسنّ لصلاة الجمعة ثلاثة أذانات: ما قبل دخول الوقت بحوالي نصف ساعة أو أقل، والأذان بعد دخول الوقت، وهو الذي زاده عثمان رضي اللّه عنه لما اتسعت المدينة، على الزوراء (أعلى دار كانت بالمدينة قرب المسجد) ويوصف بأنه الأذان الثاني أو الثالث، والأذان بين يدي الخطيب، وهو الأذان الذي كان على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم. وقد شاهدت في بلاد المغرب في الرباط وغيرها في وقت واحد أذانات ثلاثة متوالية، قبل شروع الخطيب بالخطبة، وذلك إحياء للسّنة كما يبدو، ولكن الغريب كونها متعاقبة في زمن واحد، حيث لا يصلّون السّنة القبلية.
ويكره البيع تحريما بعد الأذان عند الحنفية، ويحرم عند الآخرين، لكنه ينفذ ويمضى ولا يفسخ عند الشافعية، ويفسخ في المشهور عند المالكية ما لم يتم القبض، ولا يصح عند الحنابلة، لأن الجمعة واجبة على الرجال المقيمين الأحرار الذين لا عذر لهم، وترك الجمعة إخلال بالفرض للأمر بها، ولقوله صلّى اللّه عليه وسلّم فيما يرويه أحمد والحاكم عن أبي قلابة، وأحمد والنّسائي وابن ماجه والحاكم عن جابر: «من ترك الجمعة ثلاث مرات متواليات، من غير ضرورة، طبع اللّه على قلبه».
إسناده صحيح ورجاله ثقات، كما قال الهيثمي.
والعمل مباح بعد الفراغ من الصلاة وإتمامها، لقوله تعالى: { فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} أي إذا أدّيتم الصلاة وفرغتم منها، فيباح لكم التوزّع في نواحي الأرض للتجارة وبقية الأعمال، ولكن لا تنسوا في أثناء العمل تذكر اللّه كثيرا ومتابعة الأذكار، كالتسبيح والتحميد والتكبير والاستغفار ونحو ذلك. وقوله تعالى: {فَانْتَشِرُوا} {وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} أمر ومقتضى الأمر هنا الإباحة في طلب المعاش، مثل قوله تعالى: {وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا} [المائدة: 5/ 2].
ثم عاتب اللّه المؤمنين حين تركوا النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم وهو يخطب، وخرجوا من المسجد، للاشتغال بالتجارة والاستماع إلى طبولها المعبّرة عن الفرحة بقدوم التجارة من بلاد الشام أو غيرها، وذلك في قوله تعالى: { وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً} أي إذا رأى المصلّون في الجامع الذين يستمعون إلى الخطبة قافلة التجارة القادمة من الشام، أو رأوا لهوا كقرع الطبول وضجيج المزامير، احتفالا بزواج وغيره، خرجوا من المسجد، وانصرفوا إلى الملاهي ومتع الدنيا، وتركوك أيها النّبي قائما على المنبر تخطب فيهم، لوعظهم وإرشادهم، فقل لهم أيها الرسول: ما عند اللّه من الثواب العظيم في الدار الآخرة خير من اللهو ومن التجارة التي هي هنا سبب الخروج، واللّه مصدر الرزق وخير الرازقين، فمنه اطلبوا الرزق، وإليه توسّلوا بعمل الطاعة، فذلك من أسباب تحصيل الرزق وأعظم ما يجلبه، واللّه يرزق بسخاء من توكّل عليه، وطلب الرزق في وقته، وهو سبحانه كفيل برزق العباد، ولن يحرم أحد رزقه أو ينقص منه شيء بسبب الصلاة. وقوله تعالى: {وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} مناسب لكل من التجارة واللهو الذي هو كالتبع للتجارة.
نزلت هذه الآية بسبب أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كان قائما على المنبر، يخطب يوم الجمعة، فأقبلت عير (إبل محملة بالتجارة) من الشام، تحمل ميرة (طعاما للسفر ونحوه) وصاحبها دحية بن خليفة الكلبي. قال مجاهد: وكان من عرفهم أن تدخل العير المدينة بالطبل والمعازف والصياح من ورائها، فدخلت العير بمثل ذلك، فانفض أهل المسجد إلى رؤية ذلك وسماعه، وتركوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قائما على المنبر، ولم يبق معه غير اثني عشر رجلا، قال جابر بن عبد اللّه رضي اللّه عنه: أنا أحدهم.
أخرج عبد بن حميد عن الحسن البصري أن النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال في شأن الباقين معه دون خروج من المسجد: «والذي نفس محمد بيده، لو تتابعتم، حتى لا يبقى منكم أحد، لسال عليكم الوادي نارا».
وتدلّ هذه الآية على قيام الخطيب. وأول من استراح في الخطبة عثمان رضي اللّه عنه، وأول من خطب جالسا معاوية رضي اللّه عنه.